جديدنا

قصة قصيرة الصدمة

 قصة قصيرة الصدمة


يسرع الخطى متجها لمحطة القطار، ينظر لساعته، تشير للثانية إلا عشر دقائق، لا يتبقى سوى عشر دقائق، بعدها سيتخلف عن موعد القطار، مما سيكلفه ضريبة الجلوس لساعة ونصف أخرى حتى موعد القطار التالي.
هرول على أمل اللحاق به، أقترب من مدخل المحطة، نظر لساعته لم يتبقى أمامه سوى خمس دقائق، العرق يغمر جبهته بشدة، ينزل على عينيه، يشعر بأحتراقهما، يمسحهما بكفيه، كم يمقت الصيف بشدة، تمني لو تكون جميع فصول السنه شتاء.
وصل أخيرا لمقدمة الرصيف، بوق القطار يرتفع عاليا، معلنا بدء التحرك، تحولت هرولته لركض، فليس بعد كل ذلك المجهود اللى بذله، والقطار على بعد خطوات منه، لن يتمكن من اللحاق به.
أخيرا أستطاع الوصول للباب، تشبث بالقوائم الحديدية على جانبيه وهو يرفع قدمية واضعا إياها بداخل القطار.
شعر بالرضا لتمكنه من فعلها، حدث نفسة بأنه مازال شابا، لم يتجاوز منتصف العقد الرابع من العمر، بغض النظر عن الشعر الأبيض الذى يكسو جانبي رأسه، والكرش الذى يبرز أمامه بعض الشئ.
أخرج منديل، مسح العرق الذى ينساب على جبينه ورأسه من الخلف، بعدما فرغ أخذ يجول بعينيه بحثا عن مقعد خال، فلم يجد.




كان القطار مزدحما كالعادة يوم الخميس، فهناك الكثيرين مثله، يعملون بالقاهرة ويعودون لأسرهم فى عطلة نهاية الأسبوع، وحدث ولا حرج عن الطلبة الذى ترتفع أصواتهم بالضحك مرة، وبالشجار عدة مرات.
نظر لساعته كانت تشير للثانية وعشر دقائق، تذكر تلك المقولة القديمة التى قرأها مرارا.
(اذا ذهبت مبكرا عن موعد القطار فبتأكيد سوف يتأخر، أما إذا ذهبت متأخرا دقيقة واحدة ستجده قد غادر).
نظر لبعض الطلبة الجالسين على مقربة منه، يضحكون بحماس، تذكر الأيام الخوالي، حينما لم يكن يشغل عقله أى شئ سوى اللهو مع أقرانه، والشجار بسبب الفتيات.
أما الأن فهو رب أسرة مكونة من طفلان وأمهما، صحيح لكل مرحلة عمرية متعتها الخاصة، إلا إنه تمني لو يعود به الزمن ولو لساعة واحدة فقط، طالبا مرة اخرى، ولكن سرعان ما أبعد الفكرة عن رأسه، فالنظر لوجه طفليه والفرحة بادية عليه تساوى كنوز الدنيا.
يشعر بالفرحة لحصوله على تلك السلفة التى طلبها من مدير الشركة، فقد وعد أطفاله عند الحصول عليها بأنه سوف يقوم بشراء الملابس التى هم بحاجة إليها.
أنتبه من افكارة على صوت طفله تخاطبه قائله:
- هل تريد عسليه ياأستاذ ؟
نظر لمصدر الصوت، رأى طفلة صغيرة لا يتجاوز عمرها العشر سنوات على أقصى تقدير، ممسكة بكرتونة من الورق المقوى، تراصت بداخلها الكثير من الأكياس التى تحتوي على العسلية.
أبتسم لها وهو يهز رأسه بالنفي، واصلت سيرها لداخل عربة القطار، تخاطب الجالسين اذا ماكانوا يرغبون بشراء العسلية.





لاحظ إنها لا تشبه الباعة الجائلين الذى يجوبون القطار ذهابا وأيابا طوال اليوم، من كثرة سفره أصبح يعرفهم جيدا، أما هذه الفتاة تختلف عنهم كثيرا، فتلك المرة الأولى التى يراها فيها، فالبرغم من ملابسها البالية التى يظهر عليها أثر الفقر، إلا إنها كانت مرتبة الهندام، كما أن شعرها تم تمشيطة بعناية، ظل يتابعها بعينه حتى وصلت لنهاية العربة وغابة عن نظرة.
لا يعلم لما شعر بحنان الأب نحوها، ربما لأنها فى نفس سن أولادة، أخذ يفكر ما الذى يدفع طفلة فى سنها للعمل فى تلك المهنة الشاقة.. ترى أين أسرتها ؟
رأها تعود مرة أخرى، قرر أن يتجاذب معها أطراف الحديث، ما أن أقتربت منه، حتى أستوقفها متسائلا عن ثمن كيس العسلية، أخبرته بالسعر، قرر أن يساعدها بطريقة لا تجرح كرامتها، فقام بشراء أربع أكياس.
أعطتهم له، دسهم فى جيبه، وأخرج النقود ليعطيها أياه، أعاد الباقي لجيبه، وهو يسألها مبتسما:
- كم عمرك ؟
- عشرة.
- هل تذهبين للمدرسة ؟
- لا
- لماذا ؟
صمتت وأطرقت برأسها للأرض وقد بدى على وجهها الحزن الشديد، ربت على كتفها وهو يتفسر عن سبب حزنها، أخبرته بأنها كانت متفوقة فى دراستها، لكن منذ عامان توفي والدها وتزوجت أمها من رجل أخر، لم يتقبل وجودها، فأضطرت أمها أن ترسلها لبيت خالتها لتعيش برفقة أبنائها، فأضطرت لترك المدرسة، وأن تعمل حتى تتمكن من توفير أحتياجاتها.
تأثر بشدة لحديثها، فلقد سمع مرارا مثل تلك الحكايات، ولكنها المرة الأولى التى يقابل فيها أحد الضحايا ويتحدث معها عن قرب، سألها عن اسمها، ردت قائله:
- أمل.
كادت دموعه تسقط رغما عنه، أخرج ورقة نقدية فئة المئة جنيه من جيبه، وخاطبها قائلا:
- خذى هذه.. واذا كنت بحاجه لأى شئ فأنا اتواجد دوما كل خميس بهذا القطار.
بدى على وجهها التأثر الشديد وخاطبته قائله:
- أنا لست شحاذة.. ولكننى أريد شيئا أخر.
- ماذا تريدين؟
- هل يمكنني أن أحتضنك.. فلقد ذكرتني بوالدي.. ومنذ غيابه لم يقم أحد بأحتضاني.
كانت تلك القشة التى قسمت ظهر البعير، لم يعد يتحمل كل ذلك الكم من الشجن، جثى على ركبتيه، أحتضنها بقوة، ربت على ظهرها بحنان، لدرجة أن بعض الجالسين لفت أنتباههم ما يحدث.
أنسابت من أحضانه بهدوء، وهى تخاطبه قائله:
- سوف أنزل فى المحطة القادمة.. شكرا كثيرا لك يا أبى.





كان لوقع مناداتها له بأبى أثر كبير فى نفسه، طبع قبلة حانية على رأسها وأخبرها بأن تهتم كثيرا لأمرها، ودعته بأبتسامة بريئه، وقامت بفتح باب القطار الذى كان قد توقف بالفعل فى المحطة التى سوف تهبط بها، وهى تشير له بيدها مودعة أياه.
تأثر كثيرا بما حدث، وأخذ يلعن الظروف القاسية التى تجبر ملاك كتلك الطفلة على العمل بتلك المهنة.
تحرك القطار مرة أخرى، صورتها لا تفارق خياله، شعر بالحنين لأطفاله، قرر أن يتصل بزوجته ليتحدث إليهم، وضع يده فى جيبه ليخرج الهاتف، فلم يجدة، بدت الحيرة على وجهه، بحث فى الجيب الاخر الذى يحتفظ فيه بالنقود فربما يكون قد وضعه به، فلم يجد النقود أيضا، أستدار للخلف فربما تكون قد سقطت منه، عندما أخرجها ليعطى( أمل) ثمن العسلية، دار بعينه سريعا يبحث عنها على الأرض لم يجد شيئا، تعجب كثيرا، ترى أسقط منه الهاتف عندما كان يركض للحاق بالقطار، ولكن إذا كان هذا صحيحا فاين ذهبت النقود ؟ فلقد كانت معه عندما أخرجها ليعطي الصغيرة المئة جنيه.
صاح بصوت مرتفع مخاطبا الجالسين قائلا:
- لقد فقدتي هاتفي ونقودي..ألم يعثر عليهما أحدكم.
أتجهت أعين الجميع نحوه، لم يتلقى أجابه، أخرج أحد الجالسين هاتفه، طالبا منه الرقم ليقوم بالأتصال، قام بأعطاءه الرقم، رن جرس الهاتف، بعد قليل أتاة صوت طفلة مألوفا بالنسبة له لكنه لم يستطع تمييزه، أستفسر منها قائلا:
- من أنت؟
- أنسيت صوتي بتلك السرعة.
قالتها وأطلق ضحكة عالية، وقامت بأغلاق الخط.
(أمل) بائعة العسلية. لم يستطع تصديق ماحدث، سرقته طفلة لا يتعدى عمرها عشرة أعوام، كل ذنبه إنه تعامل معها بإنسانية، فعادتة لا تأتي الطعنات إلا من الأشخاص الذين وثقنا بهم.
علق بالصلاة على النبي اذا اعجبتك
السعادة لقلبك💚

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-