قصة قصيرة نهاية مشعوذ
حين عملت بالتدريس في إحدى المدارس في ضواحي مدينه إب ، أستطعت بالتعاون مع البعض من المدرسين تحويل المدرسة إلى شعلة من النشاط والعطاء الذي تجاوز المدرسة إلى المناطق المجاورة ، محاضرات في المساجد ، أسمار ومهرجات ، رحلات ومباريات ، مسابقات وجوائز ، لقاءات في المقايل ، أنشطة دعوية وثقافية ، لكن سرعان ما جاء قرار نقلي من تلك المدرسة إلى مدرسة نائية في أقصى الريف كعقوبة على نشاطي الذي تم تصنيفه لصالح تيار سياسي.!
شعرت بحزن شديد ، بحثت عن وساطة كبيرة توقف قرار إبعادي عن المدرسة لكن كل المحاولات باءت بالفشل .
سلمت أمري إلى الله ، وذات صباح خريفي ودعت الزملاء والطلاب ، وحزمت أغراضي ورحلت إلى تلك القرية النائية .
وصلتها ليلا ، سألت عن المدرسة فدلوني عليها ، لم أصدق أن ما رأيته هي المدرسة ، ثلاثة فصول متهالكة بلا أبواب ولا نوافذ ولا كراسي ولا سبورات ، مجرد خرابة تبيت فيها بعض الكلاب الشاردة .!
هل هذه هي المدرسة التي سأدرس فيها ؟!
سألت صاحب الدكان الذي يبيع كل شيء عن المدير فقال :
- الشيخ غير موجود ، الشيخ في المدينة
- أنا أبحث عن مدير المدرسة وليس عن الشيخ .
- الشيخ هو مدير المدرسة .!
- أنا المدرس الجديد المرسل إلى المدرسة ، دلني على بيت أي مدرس من أبناء المنطقة أو وكيل المدرسة أو نائب المدير .
هز رأسه مستغربا فلم يسمع قبل اليوم بمدرس من أبناء المنطقة ، أو شيء اسمه الوكيل أو ونائب المدير .!
الشيخ هو كل شيء.
طلبت منه أن يدلني على الجامع لأبيت فيه لكنه استضافني في منزله .
في صباح اليوم التالي انتظرت أن يأتي الطلاب لكن لم يأت أحد .!
سألته :
- أين الطلاب ؟
- حتى الآن لا يوجد طلاب .!
كان علي انتظار الشيخ حتى يعود ويأمر الناس بإرسال أولادهم للمدرسة أقصد الخرابة التي يسمونها مدرسة .
بدأنا من الصفر وتمكنت بدعم الشيخ والأهالي من اصلاح أوضاع المدرسة وبناء سكن لي بجوارها ، جمعت ما يقارب 200 طالب وبدأت تدريسهم ، وبدأت الأمور تمضي ببطء وتتحسن يوما بعد يوم .
ما حز في نفسي هو النشاط الواسع لأحمد جابر وهو مشعوذ من أدعياء العلاج بالقرآن والطب العربي ، له تأثير كبير على الناس ، ودائما ما يتحدثون عنه :
الفقيه قال ، الفقيه كتب لولدي حرز فتعافى ، الفقيه عالج زوجتي من المس ، الفقيه كتب سورة الواقعة فنزل المطر ، الفقيه يقرأ الكف ، ويكشف الطالع ويعرف النجوم .
يعتقد الكثير منهم بأنه ولي مكشوف عنه الحجاب ، لكنني عرفته من أول لقاء بأنه دجال .
ذهبت إليه سرا ونصحته لكنه أعرض عني ساخرا وهددني بأن يسلط علي أعوانه من الجن .!
حذرت الناس منه ، وكشفت حقيقته وناقشته في مقيل الشيخ فأفحمته فسكت قائلا :
- أنت ضيف عندنا ولن أرد عليك ، ويعلم الله ماذا سيحدث لك ، قد تنهشك حية في الليل ، أو يلدغك ثعبان في فراشك أو تصيبك رصاصة طائشة ، فمن يعادي أولياء الله مصيره بشع .
أدركت أنه يهددني لكنني لم أخف منه .
الغريب أن الشيخ وقف معي وصاح في المجلس :
- المدرس ضيفنا ، وفي حمايتي شخصيا ، واذا حدث له شيء فأحمد جابر غريمه ، اشهدوا يا ناس لقد هدده أمامي .
في تلك الليلة فوجئت بالشيخ يطرق باب سكني ، جلسنا وتحدثنا .
أخبرني أنه يعرف حقيقة أحمد جابر وأكاذيبه على الناس ، وأنه دجال خبيث ، وحذرني منه فهو لن يتورع عن إرسال من يدس لي السم ، أو يقتلني بالرصاص اذا واصلت التحريض عليه ، سيفعلها حين يغادر إلى المدينة ليبعد عن نفسه التهمة .
لم تمض سوى أيام حتى غادر أحمد جابر إلى المدينة ، حينها أخذت كافة احتياطاتي وحذري ، زودني الشيخ بمسدس ، ونصحني سرا أن أنام في السقف وأترك الأضواء في السكن ، وأفتح صوت الراديو وأضعه في النافذة حتى يتأكد من سيستهدفني أنني في السكن .
مددت عدة وسائد على فراشي ودثرتها كأنني أنا النائم وجعلت الباب شبه مفتوح فهاجم السكن مسلح مجهول أطلق النار على فراشي ولاذ بالفرار .
في اليوم التالي جاء إلى المدرسة أحد أقارب أحمد جابر يدعوني لتناول الغداء في منزله فأعتذرت له ، وفوجئت به في المساء يأتيني بطعام فاخر فوعدته بتناوله ، ولما غادر وضعته للقطط فماتت بعد تناولها .
لقد دسوا فيه السم فعلا .
فشلت كل محاولات اغتيالي ، وبدأ الناس في القرية يتحدثون عن محاولات " الفقيه " لقتل المدرس وانكشفت حقيقته للكثير منهم .
المشكلة أن الناس صاروا ينظرون لي كأنني ولي من أولياء الله الصالحين ، لا تؤثر في الرصاص ولا يقتلني السم .!
ولما فشلت عصابة المشعوذ في اغتيالي بأي وسيلة ، عاد أحمد جابر ذات ليلة تحت جنح الظلام ، لم يعد إلى بيته بل جاء إلى سكني وهو يردد :
- يا غريب كن أديب والا نهايتك قريب .
بحث عني في السكن فلم يجدني ، كان غاضبا يسب ويشتم ويهدد ويتوعد .
أمسك بجهاز المسجل الذي يقرأ القرآن ورماه على الأرض حتى تفتت ، بعثر أدوات السكن وخرب بعضها ، بحث عني في الفصول وبجوار المدرسة ، وأنا أراقبه بصمت من سطح السكن ، تركته يجري هنا وهناك ويسب ويشتم كالوحش المسعور حتى خف غضبه وتوقفت حركته وجلس يمضغ القات بصمت ، وحينها هاجمته بغتة من الخلف ووضعت المسدس خلف رأسه صارخا فيه :
- أين أعوانك من الجن يا دجال ؟
ارتبك وتلعثم ولم يستطع النطق ، كان يرتجف مثل دجاجة تم ذبحها للتو .
صرخت فيه :
- أنت جبان كذاب ، تخدع البسطاء وتضحك على النساء ، والليلة ستنتهي قصتك وتظهر حقيقتك ، ستسير وسط بيوت القرية ، وتعترف بجرائمك وأفعالك ، هيا تحرك أمامي .
تحرك أمامي صاغرا متوسلا عارضا علي الأموال الكبيرة مقابل تركه وشأنه .
حين اقتربنا من منزل الشيخ حاول الفرار فأطلقت رصاصة في الجو ؛ وحينها حدث ما لم يخطر لي على بال ، لقد سقط على الأرض ، في البداية ظننت أنه يمثل علي وانها لعبة منه ، وحين قلبته وحاولت سماع نبض قلبه وجدته ميتا دون حراك .!
أقبل الشيخ كأنه كان ينتظرنا ، كان يقود أحد الكلاب ، أخذ مني المسدس ووضع فيه كاتم الصوت وأطلق النار على الكلب .
أشار علي بالعودة إلى السكن فورا ، وأن أصمت تماما وسيتولى هو الأمر .
بعدها تجمع الناس فأكد لهم الشيخ أنه أطلق الرصاص على الكلب لأنه مسعور ، وقد طارد أحمد جابر ليعضه ، وأنه مات من الخوف ، وفعلا لم يجد الناس في أحمد جابر أي خدش أو أثر للرصاص ، كما أكد الطبيب أن أحمد جابر مات بالسكتة القلبية وحينها تخلصت القرية من أحقر مشعوذ دجال وتخلصت من أكبر هم عرفته في حياتي .
وأشرق في القرية صباح جديد .